خطبة عن الاشهر الحرم مختصرة ، يقف الخطيب ذو العلم والفقه والدين على منبر الصلاة ليبدأ بإلقاء الخطب التي تتضمن فحوى مناسب وملائم يعبر من خلاله على مجموعة من النصائح والمواعظ التي يمكن أن يستثمر من خلالها المسلم الأشهر الهجرية والأيام الخاصة التي تتكللها، فالأشهر الحرم هي تلك الأشهر التي جعلها الله سبحانه وتعالى محرمة أي حرم فيها القتال وخصت بالأمن والأمان، كون أنها الاشهر التي لم تشهد قتالا ولا غزوات أبدا، فقد حرم فيها القتال ولكن لم يحرم فيها الدفاع عن النفس، كما ولقد حرمت فيها المعاصي، وفيما يرد عن خطبة عن الاشهر الحرم مختصرة سنتعرف عليها وعلى أفضل الأعمال فيها.
محتويات
فضل الأشهر الحرام
ومن الجدير بالذ;ر أن للأشهر الحرم مكانة مرموقة عند الله سبحانه وتعالى، فقد قام الله تعالى باختيار الأشهر الحرم بالتحديد من بين شهور السنة الأخرى، وهذا دليل على أهمية تلك الأشهر حيث أن الله تعالى جعل المعاصي والذنوب في تلك الأشهر أشد قسوة في العقاب، وليس ذلك فقط بل قام الله تعالى بجعل للطاعات والعمل الصالح أيضاً فضلاً وثواب أعظم من باقي الطاعات في باقي الأشهر وهذا دليل على رحمة الله الواسعة، فهذا دليل على أنه لازم على العبد أن يقوم بتعظيم تلك الأشهر، حيث أن الله تعالى بنفسه قام بتشريف تلك الأشهر الفضيلة فوجب علينا أن نقوم بتعظيمها كذلك حيث قال سبحانه وتعالى: “لظُّلْمُ فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ فِي كُل حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ”، وقال أيضاً: “فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّمَا تُعَظَّمُ الأُْمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ عِنْدَ أَهْل الْفَهْمِ وَأَهْل الْعَقْل”.
خطب عن الاشهر الحرم
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقد أمر الله بتعظيم الأشهر الحرم ، ومن صور تعظيم الأشهر الحرم :
- الإكثار من الصيام في هذه الأشهر الحرم مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: « أَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلاَةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ » (صحيح مسلم).
- ومن صور تعظيم الأشهر الحرم : تحري فعل الخيرات في هذه الأشهر لاشتمالها على فضائل وعبادات ليست في غيرها؛ فهي تشمل الحج، إذ إن أفعاله كلها تقع في ذي الحجة، وتشمل هذه الأشهر الليالي العشر التي أقسم الله بها، وتسمى عشر ذي الحجة، كما تشتمل هذه الأشهر على يوم عرفة، وهو أفضل أيام العشر، كما تشتمل على يوم عيد الأضحى.
- ومن صور تعظيم الأشهر الحرم : عقد العزم الصادق بالتوبة والإنابة إلى الله والهمة العالية على تعمير هذه الأشهر بالأعمال الصالحة.
- ومن صور تعظيم الأشهر الحرم : الابتعاد عن الظلم بجميع أنواعه في هذه الأشهر لقوله تعالى: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} (التوبة:36).
- ومن صور تعظيم الأشهر الحرم : أن انتهاك الحرمات وخاصة في هذه الأشهر فيه زوال للحسنات ولو كانت عظيمة، فعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ :
- « لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِى يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ».
- قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ.
- قَالَ : « أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ». (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
الدعاء.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (36) التوبة
إخوة الإسلام
إن الله اصطفى من خلقه صفايا: فاصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليـــــالي ليلة القدر،
ألا فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به
والأشهر الحرم بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع ، ففي الصحيحين (أَنَّهُ قَالَ
« إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ …)
هذا وقد سميت هذه الأشهر بالأشهر الحرم لأمرين :
- الأول: لأن الله تعالى حرم فيها القتال بين الناس ، يقول الله جل وعلا:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (البقرة:217)، فدل ذلك على أنه محرم فيها القتال، وذلك من رحمة الله تعالى بعباده حتى يسافروا فيها ويحجوا ويعتمروا.
- والثاني: لتعظيم انتهاك المحارم فيها بأشد من تعظيمه في غيرها، وتعظيم الطاعات فيها أيضا
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره : «وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة في أمن وأمان، فحرم قبل شهر الحج شهر، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، فيذهبون إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج وهم آمنون، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك وهم آمنون، وحرم بعده شهر آخر، وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا»
ومن المعلوم أن هذه الأشهر ورثت العرب «حرمتها وتعظيمها، فكانت تعظمها فتحرم فيها القتال، وهو مما ورثته من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، غير أن العرب كانت تقوم معيشتهم على الحروب والثارات والغارات، فكانت تضطر إلى الحرب، فكانت تحتال على هذه الأشهر الحرم، فتؤخر تحريم هذا الشهر إلى آخر، وهو النسيء الوارد
في قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (التوبة:37)،
وربما حرمت العرب شهرا حلالا وأحلت شهرا محرما، وقد تجد نفسها جعلت السنة ثلاثة عشر شهرا، خلافا لما خلق الله تعالى عليه السنة، ولذلك جاء في الآية:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ} (التوبة:36)،
أيها المسلمون
ومن حرمة هذه الأشهر أن الأعمال فيها «مضاعفة الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، لذلك أكد النهي عن الظلم فيها؛ فقال: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} (التوبة:36)،
والظلم هنا يشمل المعاصي كلها؛ كبيرها وصغيرها، بترك الواجبات وفعل المحرمات، مما يتعلق بحقوق الخالق والمخلوق، ويقول القرطبي: «لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح،
فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال»
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «تحفظوا على أنفسكم فيها واجتنبوا الخطايا، فإن الحسنات فيها تضاعف والسيئات فيها تضاعف»
وقال قتادة: «إن العمل الصالح والأجر أعظم في الأشهر الحرم، والذنب والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء،
وتتجلى الحكمة في مضاعفة الأجر والثواب في الأشهر الحرم في «رحمة الله تعالى بالمؤمنين، وحسن تربيته لعباده، والأخذ بأيديهم برحمة وحكمة، فلو أنه سبحانه ضاعف الوزر كامل السنة لربما هلك الصالحون بمضاعفة ما قد يأتون من معصيتهم وظلمهم لأنفسهم؛ إذ أنهم ليسوا بمعصومين، فكان أن جعل الله تعالى الحرمة والمضاعفة خاصة بأربعة أشهر فقط، ليستطيع المسلم شد إزاره والاجتهاد فيها أكثر ما يستطيع، ثم ليكون ذلك دربة له في باقي الأشهر المخففة، وهكذا إذا اتَّقى الله تعالى وجاهد نفسه؛ وجد نفسه في سائر الشهور متقيا محترسا متيقظا، قد صار له ذلك عادة وسجية»
فهذه الأشهر مما عظمها الله سبحانه في كتابه , فيجب علينا أن نُعظم ما عظم الله , فإن تعظيمنا يُعد عبادة قلبية من أجلّ العبادات, فحين تدخل هذه الأشهر نستشعر تحريمها وتعظيم الله لها ,
أيها المسلمون
وكما علمتم فإن من بين الأشهر الحرم شهر الله المحرم ،ولشهر الله المحرم في الإسلام مكانةٌ مقدَّسة خاصة؛ ولذلك سماه الرسول عليه الصلاة والسلام: “شهر الله”، ولم يندب عليه الصلاة والسلام إلى صيام شهرٍ كامل على سبيل التطوُّع غير شهر المحرم، وجعله أفضل صيام بعد رمضان.
ففي صحيح مسلم (سُئِلَ أَيُّ الصَّلاَةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ وَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ « أَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلاَةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ ».
ويظهر أنه كان له كذلك مكانةٌ خاصة في نفوس العرب في الجاهلية، بدليل أنه اختُصَّ من بين الشهور الأربعة الحُرُم بالاسم الذي يدلُّ صراحةً على حرمتِه، وذلك قبل أن يعبثوا في مدة الشهور وأوضاعها، ويبتدعوا نظام النسيء الذي كان يُتِيحُ لهم في الغالب انتهاكَ حرمة هذا الشهر بالذات.
ويُسمَّى اليوم العاشر من شهر المحرم: عاشوراء، وقد يُسمَّى التاسع كذلك: تاسوعاء، والراجح أن هذه وتلك تسميتان عربيتان قديمتان، وليستا منقولتَينِ من لغةٍ أخرى، ويظهر أنه كان ليوم عاشوراء مكانةٌ دينية خاصة عند قريش في الجاهلية.
فقد روى البخاري في صحيحه (عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَصُومُهُ ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ)
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثالثة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
الليالي في سيرهن مسرعات، والأيام في انقضائهن ذاهبات، والأعمار في سيرهن منتهيات، وإلى الله المصير. فجدوا -رحمكم الله-، فأمامنا يوم ثقيل تذهل فيه المرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
لمثل هذا فليعمل العاملون، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
أيها الأحبة: من نعم الله –عز وجل- ومنته وكرمه ما يفتح الله –عزّ وجل- على عباده من مواسم الخيرات، تلك الأيام المباركات التي يمن الله بها -جل وعلا- على عباده، فما أن انقضى شهر رمضان في الليلة التي انقضى فيها الشهر، بدأ موسم كريم وهو موسم الحج لبيت الله الحرام.
ربي -جل وعلا- يقول: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197]، وهذه الأشهر كما بينها أهل العلم تبدأ من أول شهر شوال، فهي أشهر الحج، أشهر مباركات فيها فرائض من فرائض الله، وركن من أركان الدين، لكن منة الله وفضل الله يأتي مرة أخرى بدخول الأشهر الحرم، والتي تبتدئ من أول ذي القعدة، يقول الله –عز وجل-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة: 36].
فبيّن الله –عز وجل- أن عدة الشهور وعددها في داخل السنة اثنا عشر شهرًا.
هذه الشهور موجودة منذ خلق الله -جل وعلا- السماوات والأرض، وإن كانوا أهل الجاهلية قد حرفوا فيها وبدلوا هروبًا من الأشهر الحرم وهي الأشهر الأربعة، منها أربعة حرم: أربعة أشهر حرمها الله –عز وجل-، حرّم فيها سفك الدم، سفك الدم محرم طوال العام، ولكنه في هذه الأشهر أشد تحريمًا.
هذه الأشهر الأربعة بيّنها الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، في حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-: والمخرج في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب فقال: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب، شهر مُضر، الذي بين جمادى وشعبان”.
فهذه هي الأشهر الحرم، وهذا هو بيانها، ثلاثة متوالية وواحد فرد، ثلاث متوالية: تبدأ بذي القعدة، ذي الحجة، شهر المحرم، هذه الشهور الثلاثة متوالية كلها محرمة وكلها أشهر حرم. وشهر واحد بمفرده وهو شهر رجب، شهر رجب الذي هو الشهر السابع في السنة الهجرية أي وسط السنة الهجرية، شهر رجب مضر، نسب إلى قبيلة مضر؛ لأن قبيلة مضر كانت تعظم هذا الشهر ولا تنسئه ولا تغيره، ورجب مضر هو الذي في وقته الحقيقي بين جمادى وشعبان، فكان أهل الجاهلية لحرصهم على تعظيم هذه الأشهر الحرم لا يريدون أن يرتكبوا سفك الدم فيها، ولا يريدون إيقاع القتال فيها. فماذا يفعلون؟! استحلوا محارم الله بحيلة لا تنطلي على عقل عاقل!! سيدخل عليهم شهر حرام كشهر ذي القعدة مثلاً، ولكنهم يعدون العدة لحرب الله أعلم بسببها، ربما بسبب أن ناقة فلان شربت قبل ناقة فلان، فتداعى القوم للحرب!! تداعوا لتلك الحرب وهم مقبلون على شهر حرام، وربما يريدون الأخذ بثأر حرب قديمة مثلاً، فتداعوا إلى الحرب، والشهر الحرام على الأبواب، فماذا يفعلون؟!
مقدم شهر ذي القعدة شهر حرام، بعده ذي الحجة شهر محرم، بعده شهر المحرم شهر حرام، بعده شهر صفر ليس من الأشهر الحرم، فينسئوا هذه الأشهر -النسيء هو التأجيل والتأخير- فيؤجلوها ويقدموا صفر مثلاً، فبعد يومين نستقبل ذي القعدة فيقولون: لا، بعد يومين نستقبل صفر!! كيف جاء صفر؟! نسأوا الأشهر الحرم، وأتوا بشهر صفر حتى يوقعوا القتال وبظنهم أنهم لا يتعدون على حرمات الله.
فلما كانت الأشهر يقع فيها هذا وتبدل، فوقف -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بعد أن تم الدين وكمل، وبيّن -صلوات ربي وسلامه عليه- أن الزمان كله قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وأن هذه الأشهر هي في مواعيدها الحقيقة هي ثابتة غير نسيئة ولا مؤجلة، بل في مواعيدها ومواقيتها، فرجب هو رجب، ورمضان هو رمضان، والأشهر الحرم كما هي.
هذه هي الأشهر الحرم، ثلاثة متوالية، وشهر فرد، وهو شهر رجب.
فنحن -أيها الأحبة- سنستقبل هذه الأشهر المتوالية تباعًا، في هذا الأسبوع الذي نستقبله ندخل في هذه الأشهر.
قال الله –عز وجل-: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)، (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ): ظلم النفس بالوقوع فيما لا يرضي الله –عز وجل-، بالتجرؤ على معصية الكبير المتعالي، محرم في سائر العام، ولكنه في هذه الأشهر أشد تحريمًا وأشد تعظيمًا، وأشد تجريمًا، أشد جرمًا وإثمًا.
(فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ): ظلم النفس بالتعدي على حق الكبير المتعالي ظلم وأي ظلم، ظلم النفس بالتعدي على حقوق عباد الله ظلم وأي ظلم. فعلى المرء المسلم أن يتقي الله –عز وجل-، وأن يراقب الله -تبارك وتعالى- في نفسه في هذه الأشهر، فهو أمام حرمة من حرمات الله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30]، وهو أمام حرمة من حرمات الله وشعيرة من شعائر الله، فينظر الله –عز وجل- كيف نعمل في هذه الأيام وفي هذه الأشهر، التي هي حقيقة وجودنا على هذه الدار، ثم إلى ربنا مرجعنا ومحاسبنا على ما فعلنا.
ظلم النفس حرام، ظلم عباد الله، اجتناب الظلم أيًّا كان نوعه واجب في سائر العام، وهو في الأيام القادمة أشد وجوبًا.
ثم علينا الاجتهاد في الطاعة والإقبال على ما يُرضي الله –عز وجل-، رغبة في ثواب الله وطمعًا في كرم الله، فربي -جل وعلا- إذا غلّظ العقوبة ضاعف الحسنات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما سأله عبد الله بن عمر، فقال له -صلوات ربي وسلامه عليه-: “صُمْ من الحرم واترك”.
فهذه الأشهر الحرم فيها تقرب من الله –عز وجل- بالطاعات، ولا سيما عبادة الصيام، أمامنا -أيها الأحبة- موسم جديد للمتاجرة مع الله، فأين الرابحون في رمضان؟! أين من أقبلوا على الواحد الديان؟!
إن من علامة قبول الطاعة الطاعة بعدها، إن من علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها، فهيا -أيها المحسنون- أحسنوا، إن الله يحب المحسنين.
اجتهدوا -رحمكم الله- في مواقعة الطاعات في هذه الأشهر المباركات وفي سائر الأيام.
ووقفة ثالثة وأخيرة: في تحريم سفك الدماء في هذه الأشهر وفي تحريم القتال. أيها الأحبة: كم عدد أشهر السنة؟! اثنا عشر شهرًا، كم عدد الأشهر الحرم؟! أربعة، فكم تساوي الأربعة بالنسبة للاثني عشر شهرًا؟! إنها ثلث العام، سلم وسلام وأمن وأمان، يأمن الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم، يأمنون في أشهر الحج للحج، ويأمنون في شهر رجب للعمرة، يأمنون في هذه الأشهر، على أموالهم ودمائهم.
عظم الإسلام الدم، وجعل سافك الدم مرتكبًا لإثم كبير، وفي هذه الأشهر تتضاعف تلك الجريمة، إنها رسالة للعالم وللإنسانية أن هذا الدين دين سلم وسلام، وأمن وأمان، ثلث العام سلم وسلام، وأمن وأمان.
أمّن الإسلام الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم، وجعل هذه الأشهر يحرّم فيها القتال، فهلا فقهت البشرية؟! وهلا اعتبر عقلاء الإنسانية إلى هذا الدين العظيم؟! الإسلام الذي تحيته السلام، والذي يدعو للسلم والسلام، ويجعل ثلث العام سلم وسلام وأمن وأمان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الرابعة
الحمد لله كما ينبغي أن يحمد، وأصلي وأسلم على النبي أحمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الأحبة في الله: إن الأيام تمر مسرعات، وهي مراحل نطويها إلى الدار الآخرة، أيام تمر نقطعها مرحلةً مرحلةً، وكل يوم يمر يقربنا إلى الدار الآخرة. فهلا اعتبرنا بسرعة مرور الأيام؟! هلا اعتبرنا بما مضى كيف مضى؟! هلا اعتبرنا كم ودعنا في الأيام الماضية من حبيب وقريب وصاحب؟! هلا اعتبرنا بمن رحلوا للدار الآخرة؟!
أيها الأحبة: إنها حقيقة الدنيا، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26،27].
فاعتبروا -رحمكم الله- واتعظوا بمرور الأيام، وتزودوا منها لوقوفكم بين يدي الكبير المتعال.
هذا، وتوجهوا لله –عز وجل- في هذا الجمع المبارك في هذا اليوم المبارك في هذه الساعة المباركة بالدعاء.
وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.