قصة الثلاثة الذين حبستهم الصخرة، حين يتخبط الانسان في بحر لجي من الكروب، وتنزل فيه الهموم من كل حدب وصوب، وتنقطع لديه كل الأسباب، وينقطع حبل الرجاء من الشارعين به، وتغلق في وجهه كل الأبواب، يبقى باب واحد فقط هو المفتوح رغماً عن كل هذا، باب السماء، الذي لا يغلق في وجه أي لاجئ يلتجئ لله بالدعاء، وقد أخبرنا الرسول الكثير من القصص التي التي انقطعت بأصحابها الأسباب وفقدوا الأمل بكل شيء، إلا وجه الله لم يفقدوا الأمل به، ومن ضمن هذه القصص قصة الثلاثة الذين حبستهم الصخرة، وأصابتهم الشدة وحلت بهم الكروب، فلم يتجهوا لملجأ سوى لله، لأنه هو القادر على أن ينجيهم مما وقعوا فيه، وهنا سنسرد هذه القصة وما فيها من عظات وفوائد عظيمة.
محتويات
الحديث الذي وردت فيه قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار فانطبق عليهم
القصة رواها البخاري و مسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: ( بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر ،فمالوا إلى غار في الجبل ،فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل ،فأطبقت عليهم ،فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة ،فادعوا الله بها لعله يفرجها ،فقال أحدهم : اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ،ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم ،فإذا رحت عليهم فحلبت ،بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي ،وإنه ناء بي الشجر ،فما أتيت حتى أمسيت ،فوجدتهما قد ناما ،فحلبت كما كنت أحلب ،فجئت بالحِلاب ،فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما ،وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما ،والصبية يتضاغون عند قدمي ،فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر ،فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ،فافرج لنا فرجة نرى منها السماء ،ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء ،وقال الثاني : اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء ،فطلبت إليها نفسها ،فأبت حتى آتيها بمائة دينار ،فسعيت حتى جمعت مائة دينار ،فلقيتها بها ،فلما قعدت بين رجليها قالت : يا عبد الله ،اتق الله ولا تفتح الخاتم ،فقمت عنها ،اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك ،فافرج لنا منها ،ففرج لهم فرجة ،وقال الآخر : اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفَرَقِ أَرُزٍّ, ،فلما قضى عمله قال : أعطني حقي ،فعرضت عليه حقه ،فتركه ورغب عنه ،فلم أزل أزرعه ،حتى جمعت منه بقرا وراعيها ،فجاءني فقال : اتق الله ولا تظلمني ،وأعطني حقي ،فقلت : اذهب إلى ذلك البقر وراعيها ،فقال : اتق الله ولا تهزأ بي ،فقلت : إني لا أهزأ بك ،فخذ ذلك البقر وراعيها ،فأخذه فانطلق بها ،فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ،فافرج ما بقي ،ففرج الله عنهم).
قصة الثلاثة الذين آووا إلى الغار فانطبق عليهم
هذه القصة هي لثلاثة رجال، خرجوا من بيوتهم لغرض ما، ونزل عليهم مطر غزير جداً، فذهبوا ليبحثوا عن مكان يختبئون فيه من غزارة المطر المتساقط فوق رؤوسهم، ولم يجدوا سوى غار في جبل، فذهبوا ليحتموا في هذا الغار، ولكن الأمطار من شدة غزارتها قامت بجرف الصخور الكبيرة من أعلى الجبل، مما أدى لسقوط صخرة من هذه الصخور الكبيرة حيث أغلقت عليهم باب الغار، وكانت ضخمة جداً لدرجة أنهم من شدة عظمتها لم يستطيعوا تحريكها من مكانها، وليس لديهم طريقة يخبرون فيها قومهم بما حدث لهم، كما أن الأمطار الغزيرة والسيول أخفت كل الآثار التي يمكن عن طريقها معرفة مكان الرجال الثلاثة، حتى لو قاموا بالصراخ بأعلى صوتهم لن يستطيع احد سماعهم، ولن يتجاوز صوتهم جدران الغاز الذي يجلسون فيه، وعندما وصلوا لطريق مسدود، وايقنوا من وقوعهم في الهلاك، أشار احدهم على الباقيين أن يتوسلوا لله بأعمالهم الصالحة، الذي قصدوا بها وجه الله، لعل الله يلبي رجاءهم وينقذهم مما وقعوا فيه، فقام كل واحد منهم بالتوسل لله بعمله الصالح كما يلي:
- توسل الأول ببره لوالديه: حيث كان يبر والديه في كبرهما وضعفهما، فقد كان يعمل في رعي المواشي، وحين يعود لمنزله، يحضر مواشيه، ويهب لوالديه أولاً، فيسقيهما قبل أن يسقي أولاده الصغار، وفي يوم من الأيام ابتعد في طلب المرعى، وعاد لمنزله بعد دخول المساء، واحضر معه الحليب، ولكنه وجد والديه نائمين، فلم يحب ايقاظهما من نومهما، وكره أن يسقي أولاده الصغار من هذا الحليب قبل والديه، فظل جالساً طيلة الليل وهو ممسك في اناء الحليب، ينتظر استيقاظ والديه، رغماً عن بكاء أولاده الصغار بجواره، يريدون منه ان يطعمهم ويسقيهم، ولكنه ظل كما هو حتى طلع الفجر عليه.
- توسل الثاني بخوفه من الله: حيث كان يخاف الله وهذا عفاه من الوقوع في الحرام والفاحشة، رغم قدرته على فعلها، إلا أنه لم يقدم على ذلك خوفاً من الله، فقد كانت له ابنة عم يحبها حباً شديداً، كما أنه راودها عن نفسها مرات عديدة، إلا أنها كانت ترفض في كل مرة، حتى أصبحت بحاجة ماسة، فاضطرت أن توافقه مقابل أن يعطيها مبلغاً من المال، لتدفع بهذا المال الحاجة التي اصابتها، فحينما قعد منه مقعد الرجل من امرأته، اشتعل الايمان في قلبها من جديد، خوفاً من الله، فذكرته بالله حينها، فقام عنها خائفاً، وترك لها المال.
- توسل الثالث بأمانته وحفظه لحقوق الآخرين: حيث قال بأنه استأجر أجيراً ليعمل عنده، وكانت أجرة هذا الأجير بعضاً من الأرز، وعندما أنهى الاجير عمله أعطاه الرجل أجره، فتركه الأجير وزهد فيه، وعلى الرغم من هذا قام الرجل بحفظ هذا الأجر له، حتى أصبح مالاً كثيراً، جمع منه بقر مع رعاتها، فلما جاءه الأجير بعد أن غاب مدة طويلة، طلب من هذا الرجل اجره، فقام بإعطائه كل ما قام بجمعه من المال.
وكان كلما ذكر أحد الرجال الثلاثة عمله الصالح الذي قام به، كانت الصخرة تنفرج قليلاً، حتى أنهى الثالث دعاءه وتوسله لله، كانت فد انفرجت الصخرة كلياً، وخرجوا من الغار.
الفوائد والعبر المستفادة من قصة الثلاثة الذين حبستهم الصخرة
هناك الكثير من العبر والعظات المستفادة من هذه القصة، التي تحمل في مكنونها كل ما هو جميل، حيث ترسم للإنسان الطريق الذي يجب عليه أن يسلكه إذا اشتدت عليه الكروب، ألا وهو طريق الله الذي لا يعود أحد منه خائباً، وهذه هي العبر المستفادة من هذه القصة:
- فضيلة بر الوالدين: حيث ان بر الوالدين من أكثر الاعمال الصالحة التي تنجي الانسان من الكروب وتفرج عنه الهموم، حيث قال تعالى:”وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا”[الإسراء: 23].
- فضيلة العفة من الزنا: حيث أن الانسان اذا عف نفسه عن الزنا رغم قدرته عليه وتيسر أموره ليقوم به، فهذا يعد من افضل الأعمال الصالحة التي تحميه من الوقوع في الكروب دون نجاة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”سبعةٌ يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه”، وذكر منهم “ورجل دعتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنّي أخاف الله”، اي من يعف نفسه عن الزنا سيستظل في ظل الله يوم القيامة.
- فضيلة الأمانة وإصلاح العمر للغير: حيث ان الرجل الثالث كان بإمكانه أن يعطي الاجير اجره المتفق عليه قبل ذلك، ويبقي باقي المال لنفسه، ولكن أمانته واخلاصه أبت عن فعل ذلك، فقام بإعطائه كل ما جمعه له من المال، وقال تعالي بما يخص حفظ الأمانة: ” وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ” [المؤمنون: 8].
- أكثر الأسباب دفعاً للكروب والهموم هي الدعاء: فالله يسمع دعاء الداعيين ويستجيب لهم وينجيهم من الكروب والهموم، وقال تعالى فيما يتعلق بهذا الأمر: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”[البقرة: 186].
- الاخلاص لله تعالى سبب من أسباب زوال الهموم وتفريج الكربات: وهذا لأن كل واحد منهم كان يقول “اللَّهُمَّ إن كنت فعلتُ ذلك من أجلك، فافرُجْ عنَّا ما نحن فيه”.
- مشروعية التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة: حيث وجدنا كل رجل من الرجال الثلاثة كانوا يتوسلون لله بعملهم الصالح الذي قاموا به، وبأعمالهم الصالحة أزال الله عنهم الضرر والشدة.
والخلاصة، أن هذه القصة تبين للمسلم طريق النجاة والخلاص من الكروب، وهو اللجوء والالتجاء الى الله بالدعاء والتوسل، فالله هو الذي يقدر على كل شيء، ولا يوجد شيء في هذا الكون يُعجز الله، وهو الذي يجيب دعوات الداعين، ويلبي حاجات العباد، ويرحمهم برحمته الواسعة، ويغفر لهم، ويرفع عنهم الهموم و والكروب، حتى وان كانت مستعصية.