قفا نبكي لذكرى حبيب ومنزل شرح، هذه القصيدة من إحدى المعلقات العشر، فالمعلقات عبارة عن شعر قديم كُتب بماء الذهب، وسمي بهذا الاسم لأنها كانت تعلق في الأذهان، وهذه المعلقة للشاعر امرؤ القيس وهو جندح بن حجر الكندي، لُقب بامرؤ القيس، ينتمي إلى الدّين الوثني، إلا أنه لم يكن مخلصاً لدينه، وهو أحد أهم الشعراء العرب في العصر الجاهلي، تعلم الشعر منذ صغره، ومن أشهر أعماله الشعرية معلقة قفا نبكي لذكرى حبيب ومنزل شرح، والتي سيتم شرحها في هذا المقال.
محتويات
قفا نبكي لذكرى حبيب ومنزل شرح
تتكون معلقة امرؤ القيس قفا نبكِ لذكرى حبيبٍ ومنزلِ من ثمانية وسبعون بيتاً، سنشرح أول عشرة أبيات من هذه القصيدة شرحاً مفصلاً، وهي الآتي :
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ *** بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْمَلِ
- سقط اللوى : منقطع الرمل.
قف يا صديقي وشارك أعينني في البكاء على ذكرى حبيباً فارقته، ومنزلاً خرجت منه عند منقطع الرمل بيم الدخول وحومل، ويشير الشاعر أن هو وصديقه كانا قادمان من السفر الذي كان رمالاً، وفي قوله قفا هنا إيحاء أن يستكملون طريقهم بعد التذكر والبقاء على فراق الحبيب.
فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لمْ يَعْفُ رَسْمُها *** لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ
- رسمها : أثرها
توضح والمقراة موقعين وقع بينما سقط اللوى، كما وقع بين الدخول وحومل، لم ينمسح هذا الأثر سواء بسبب الرياح الآتية من الجنوب التي تهب وغطت كل أثر بالرمال، وأتت الرياح من جهة الشمال أزالت هذا التراب وكشفت عن هذا الأثر، وفي هذا البيت وصف عجيب في تتالي الرياح، وهي تشبه الصراع البيئي في إبقاء أو إزالة هذه الآثار، وهي ما تُسمى بعوامل التعرية التي تمحو أثر وتترك أثر شيء آخر، وكذلك قلب الشاعر لم يمحو حبه وذكرياته، أما حبيبه لم يترك أثر في قلبه لهذه الذكريات.
تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَاتِهَا *** وَقِيْعَانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ
- الأرآم : الغزلان البيض.
- عرصاتها : ساحاتها.
ترى بعر الغزلان البيضاء في ساحاتها المخصصة لبيوتها، وفي المساحات الخالية حول بيوتها، مثل حب الفلفل، وهنا نلاحظ الشاعر يتأمل ما حوله ويصفه مبدأً من البيوت ويتسع بنظره إلى ما حول هذه البيوت من مساحات واسعة، وفي البيت الثالث إشارة أن البيوت قد تخلو من سكانها إلى أن تتأتي الضباء والغزلان لتنثر ما يخرج منها من بعر في هذه الساحات الواسعة، والتجول فيها مستوحشاً لسكان هذه البيوت الخالية.
كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا *** لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ
- غداة البين : وقت الظهر.
- تحمّلوا : ترحّلوا.
- سمرات : شجر الطلح.
- ناقف حنظل : أي يشق الحنظل بيده.
شبه الشاعر كأنه في وقت الظهر وحر الشمس الشديد في هذا الوقت من يوم فراقهم عند شجر الطلح الموجود في الحي، بشدة حيرته بأنه لا يعلم ماذا يفعل، وكأنه يشق الحنظل بعد جنيها من الشجر أملاً في أن يستخرج منه الحب الذي فيها من حيرته وقهره لعدم معرفته ماذا يفعل.
وُقُوْفًا بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُمُ *** يَقُوْلُوْنَ: لا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ
- مطيهم : ما يركب من الأبل أو الخيل.
وقف أصدقاء الشاعر على رأسه وهو جاثي على الأرض، وهم على ركائبهم من الإبل والخيل متعاطفين مع حزن الشاعر، ويهدون من روعه بأن لا يؤذي نفسه من شدة حزنه، وأن يتحلى بالصبر.
وإِنَّ شِفائِيَ عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ *** فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ؟
- شفائي : ارتياحي من كل وجع.
- عبرة مهراقة : دمعة مصبوبة.
- رسم دارس : مكان خالي.
- معول : يبكي بصوت مرتفع.
يقول الشاعر أن شفاؤه وارتياحه من هذا الحزن وبكاؤه بصوت مرتفع، وانذراف الدموع من عينيه كالماء، وأنه هل يجد أحد عند هذا المكان الخالي والمهجور وينفجر بالبكاء، فلا جدوى من ذلك حيث لن يرجع الأهل والأصدقاء والأحباب، وينكر الشاعر أن ما يفعله مثل ما يفعل المجنون، ولديه قناعة بهذا الأمر أنه سينتهي حتماً وينصح الشاعر نفسه بالرضى بكل الأحوال التي يمر بها حتى يتمكن من أن يستعيد قوته من جديد.
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا *** وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ
- كدأبك : عادتك المستمرة.
- مأسل : موضع جبل أو موضع ماء.
يخاطب الشاعر في البيت السابع نفسه، ويذكر نفسه بسوء حظه من بعد كل محاولاته للقائه بحبيبته، وأن عمل بكل جد إلى أن اصبحت عادة مستمرة فيه وهي محاولته للوصول لحبيبته، وسوء حظه معها ومن من قبلها عند موضع الجبل أو موضع الماء.
إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا **** نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ
- تضوّع : فاحَ.
- الريّا : الرائحة الطيبة.
هنا يقول الشاعر أنه إذا جاءت كل من حبيبته الحالية أو حبيبته السابقة، فإنها تهب منهما ريحة طيبة مثل ريحة المسك، وذلك دلالة على شدة جمالهما، وشبهما كأنه يمر نسيم من الشمال على ورد من القرنفل فيجلب هذا الريح رائحة جميلة من ورد القرنفل.
فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً *** عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي
- صبابة :رقة الشوق.
- محمل :حمالة سيفي.
هنا يذكر الشاعر معناته وفيضان دموعه على الواقع الأليم الذي يعيشه وشدة الحزن والحنين إلى الحبيب، وشوقه الذي يدفعه إلى بداية خروج حبيبته على نحره، وشبهها كأنها قطعت مسافة طويلة جداً حتى وصلت لتبلل حمالة سيفه.
ألَا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ *** وَلَا سِيَّمَا يَوْمٌ بِدَارَةِ جُلْجُلِ
- صالح :نال الشيء وحصل عليه.
في هذا البيت يذّكر الشاعر نفسه ويخفف ويهون على حبيبته، بقوله كم كان لك من حبيبته السابقة والحالية من لقاء والعيش معهن بكل نعيم، خصوصاً ذلك اليوم الذي كان بدارة جلجل، فذلك اليوم كان من أجمل الأيام وأكثرها فرحاً للقلب.