نقدم لكم اليوم شرح الرسالة الجدية لابن زيدون، وهي الرسالة الأدبية النثرية للشاعر الأندلسي ابن زيدون وكان وقتها قد أرسلها إلى الوزير ابن جهور، كما إن لهذا الشاعر الشهير الكثير من التفسيرات والتحليلات لمعاني أبيات الرسالة، ونحن في موسوعة المحيط سوف نتعرف على ” شرح الرسالة الجدية لابن زيدون” شرح مفصل للرسالة لكل كلمة قد أرسلت للوزير ابن جهود من الشاعر ابن زيدون، كما إن موسوعة المحيط تقدم لكم كل ما هو جديد من المقالات المميزة والحديثة فتابعونا بكل ما هو جديد.
محتويات
شرح الرسالة الجدية لابن زيدون
كان الوداد في قمته والحب في أوجه بين ابن زيدون وولادة، ولكن عهد السرور لم يطل، وأواصر الثقة لم تستمر فسرعان ما تغير قلب ولادة نحوه.
وكانت بينهما جفوة وفراق وكان سببها فيما يرويه ناقد الأندلس ومؤرخها الأدبي ابن بسام أن ابن زيدون أشار- وعلى حين غفلة منه- ذات ليلة الى جاريتها السمراء( عتبة) أن تعيد له صوتاً غنته فأعجب به فظنت ولادة الأميرة أنه يميل الى الجارية ويغازلها من دونها فسرت في كيانها نار الغيرة, وغضبت غضباً شديداً وصرفته من مجلسها حزيناً كسيراً، ويميل بعض من كتب في الأدب الأندلسي الى أنه قد يكون الدور السياسي الخطير الذي قام به ابن زيدون في إزالة الخلافة الأموية وإسقاطها في الأندلس وإقامة دولة بني جهور على أنقاضها سبباً في القطيعة بين ابن زيدون وولادة فهي بنت خليفة أموي زالت دولته وسقطت رايته فجاءت الغيرة وحادثة الجارية تُذكي في نفسها شتى الوساوس نحوه.
ويأبى القدر إلاأن يرمي شاعرنا ابن زيدون بسهم آخر, فإذا هو رهين السجن بفعل السياسة وأحابيلها، والوشاية وأحقادها يعاني في غياهبه مرارة الوحشة وألم البين الممض ومرارة الفراق المقض، ويندب حظه العاثر، فلا يجد له عزاء سوى الشعر فيناجيه ولاصاحباً سوى طيف “ولّادة” فيناغيه، ويتاح للشاعر الهرب من سجنه في قرطبة، فيذهب متخفياً الى الزهراء ليتوارى في نواحيها ,ويسلي القلب الكسير برؤية مافيها، فوافاها والربيع قد خلع عليها برده، ونثر سوسنه ووروده، وأترع جداولها، وأنطق بلابلها، فتشوق الى ولادة وحنّ الى لقائها، وتذكر الأيام الخوالي التي كانا يرتعان خلالها معاً في ربوع الزهراء الساحرة، فأرسل إليها رسالة يبثها مابه، ويعاتبها على إغفاله بعدأن أحكم القدر عليه رتاجه,وكانت الرسالة هذه القصيدة التي يقول فيها مخاطباً ولادة :
“إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا
والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله
كأنه رقّ لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائه الفضي مبتسم
كما شققت عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت
بتنا لها حين نام الدهر سراقا
نلهو بما يستميل العين من زهر
جال الندى فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه إذ عاينت أرقي
بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته
فازداد منه الضحى في العين إشراقا
الى أن يقول في نهاية القصيدة :
فالآن أحمد ماكنا لعهدكم
سلوتم وبقينا نحن عشاقا”
إن طبيعة الأندلس ساحرة خلابة, صادفت من ابن زيدون احساساً مشبوباً, وقلباً مفتوحاً, وعاطفة متوهجة , فافتتن بها أيما افتتان, وأذكى ولعه بها إنها ارتبطت بذكريات حبه أوثق ارتباط حيث كانت الكتف الحاني , والمخدع الدافئ , والملتقى الآمن , وفي ربوع الزهراء حيث ازدانت الطبيعة بالمروج الخضر والأزاهير المتفتحة البراعم , والأشجار المتشابكة الاغصان وتجلت السماء عن صفحة زرقاء الأديم يقف ابن زيدون في حال من اللوعة والأسى تستثير الإشفاق إنه طريد هارب من سجنه مفزع من شدة كربه , ناء عن بلده , تهب عليه نسمات الأصيل حزينة على مابه, راثية لحاله , في هذا الجو ينقدح زناد ذكرياته فيشرق خاطره بذكر( ولادة) ويضطرم قلبه شوقاً إليها ,وينعكس خاطره على مرآة الطبيعة من حوله .
وهكذا أطلت الطبيعة بمظاهرها الماثلة الحاضرة, والمستدعاة المستحضرة تهيج في نفس ابن زيدون دفين الذكريات, وتثير فيها لواعج الشوق وكوامن الشجن فيحز ذلك في نفسه ويبعث الضيق والأسى في صدره , إذ ما الفائدة من ذكريات الأمس العِذاب وأمنياته الرطاب إذا كنّ يصطدمن بواقعه الأليم , ثم يعرب ابن زيدون عن مدى إخلاصه في حبه ووفائه لمحبوبته , فيذكر أن ذكرى الحبيب إذا خطرت على قلبه الخفاق ولم يستطع تدفق الشوق أن يحيل قلبه المستهام الى طائر يطير به الى محبوبته, فلا أذاق الله هذا القلب متعة الهدوء ونعمة السكينة وآلاء الاستقرار مادام أخلد الى الأرض ولم يطر الى محبوبته ومناه, ولو شاءت نسمات الصباح التي تسري نحو منازل الحبيب أن تحمل الشاعر على جناحها بدلاً من قلبه الذي هيض جناحه لما وجدت فيه ولادة غير فتى مدنف براه الوجد , وأضناه الهوى حتى ليستطيع النسيم حمله لو شاء وليته فعل , ليحقق المنى في اللقاء بمحبوبته التي ملكت عليه قلبه وعقله لخطر شأنها ونفاسة قيمتها ورفعة منزلتها وعلو مكانتها.
ثم ماتلبث الأماني أن تشد الشاعر من جديد في ختام قصيدته الى تذكر عهد مضى استبقا فيه الى حيث الورد والأنس والبهجة أشواطاً كثيرة , ثم في النهاية يحمد ابن زيدون عهداً سلف, ويبدي على حاضره قلقاً وأسفاً أي أسف, لأنه يشهد سلوها ونسيانها , بينما هو باق على تولهه , وعشقه فيهتف قائلاً :
“فالآن أحمد ماكنا لعهدكم سلوتم وبقينا نحن عشاقا”
وهذه القصيدة صرخة لهيفة قد ارتفعت على جناح الطبيعة الى أفق وضيء لم نعهده في المشرق إذ ذاك , فيتضاءل جوارها أكثر ما نعهد من الوصف البصري والتصوير الحسي الذي يقف عند الجزئيات دون أن يفرغها الشاعر في روح كلي عام كما نجد في أكثر نماذج الشعرالعربي حول الطبيعة , أما هذه الرائعة لابن زيدون, فهي تجربة نفسية وحالة وجدانية متكاملة حققت معالم جديدة فقد كان من أجمل ما وفق إليه الشاعر أنه استطاع بتلقائية شاعرة وحضور عاطفي عجيب أن يشخص مظاهر الطبيعة ويخلع عليها الحياة وينفث فيها الإحساس ويلبسها الشعور فجعلها بشراً يتفاعلون مع ابن زيدون فيشاطرونه مشاعره وأحاسيسه ويقاسمونه أفراحه وأتراحه, وهكذا أحال ابن زيدون بحضوره العاطفي المتوهج وأسلوبه المجازي المبدع عناصر الطبيعة أشخاصاً ذوي عواطف إنسانية ومشاعر وجدانية يحنون عليه ويشاركونه تحمل مأساته مادام قد فقد الصاحب والنصير من بني الإنسان .
وهنا قد وصلنا وإياكم على نهاية مقالنا لهذا اليوم، ونتمنى أن يكون قد نال إعجابكم، والذي شرحنا فيه عن ” شرح الرسالة الجدية لابن زيدون”، ودمتم بود